فصل: الأحكام الشرعية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.المعنى الإجمالي:

يقول الله جل ثناؤه ما معناه: يا أيها المؤمنون لا يحل لكم أن ترثوا نكاح النساء على كره منهن، ولا أن تمنعوهن من الزواج بعد تطليقكم لهن، أو تضيقوا عليهن حتى تذهبوا ببعض ما آتيتموهن من ميراث أو صداق، إلاّ إذا أتين بفاحشة من الفواحش كالبذاءة باللسان، والنشوز على الزوج، والوقوع في المنكرات كالزنى وغيره فلكم حينئذٍ أن تعضلوهن حتى يفتدين أنفسهن منكم، لأن الله لا يحب الظلم أيًا كان مصدره. ثم أمر تعالى بحسن الصحبة والمعاشرة للأزواج بالمعروف، فإذا كره الرجل زوجته فليصبر عليها، وليستمرّ في إحسانه إليها، فعسى أن يرزقه الله منها ولدًا تقر به عينه، وعسى أن يكون في هذا الشيء المكروه الخير الكثير، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
وإن أردتم أيها المؤمنون نكاح امرأة مكان امرأة طلقتموها، وكنتم قد أعطيتم المطلّقة مهرًا كبيرًا يبلغ قنطارًا، فلا تأخذوا منه شيئًا، أتأخذونه ظلمًا وعدوانًا؟ وكيف يباح لكم أخذه وقد استمتعتم بهن بالمعاشرة الزوجية، وبالاتصال الجنسي (الجماع) واستحللتم فروجهن بكلمة الله (عقد النكاح) فكيف تأخذون ما دفعتم لهن من المهور بعد هذا الميثاق؟ ثم بين تعالى ما يحرم على الرجال نكاحهن من المحارم، وهنّ (المحرمات من النساء) فبدأ بحلائل الآباء، وأبطل ما كان العرب يفعلونه في جاهليتهم من نكاح الولد لزوجة أبيه، لأنه أمر قبيح قد تناهى في القبح والشناعة، وبلغ الذروة العليا في الفظاعة والبشاعة، إذ كيف يليق بالإنسان أن يتزوج امرأة أبيه وأن يعلوها بعد وفاته وهي مثل أمه؟ ثم عدّد تعالى المحرمات بالنسب وهن (الأمهات، والبنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وبنات الأخ، وبنات الأخت) والمحرمات من الرضاعة وذكر منهن (الأمهات والأخوات) والمحرمات بالمصاهرة وهن (أم الزوجة، وبنت الزوجة، وزوجة الابن، والجمع بين الأختين) وأحل ما سوى ذلك من النساء كما سنوضحه بالتفصيل عند ذكر الأحكام إن شاء الله تعالى.
في الآيات السابقة من أول سورة النساء نهى الله جل ثناؤه عن كثير من عادات الجاهلية في أمر اليتامى والأموال ونكاح اليتيمات من غير صداق، وعن الظلم الذي كانو عليه في أمر الميراث حيث كانوا يحرمون المرأة والصغير من الميراث بحجة أن هؤلاء لا يستطيعون الذود عن العشيرة، ولا حمل السلاح إلى آخر ما هنالك من مظالم اجتماعية، وقد جاءت هذه الآيات الكريمة لبيان نوع آخر من الظلم كانت تتعرض له النساء في الجاهلية وهو اعتبارهن كالمتاع ينتقل بالإرث من إنسان إلى آخر، فقد كانوا يرثون زوجة من يموت منهم كما يرثون ماله، فحرّم الله ذلك وأمر بإحسان معاشرتهن وصحبتهن، ودعا إلى إنصافهن من ذلك الظلم الصارخ والعدوان المبين.

.سبب النزول:

أولًا: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كان أهل الجاهلية إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقّ بامرأته، إن شاء بعضهم تزوجها، وإن شاءوا زوجوها، وإن شاءوا لم يزوجوها فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهًا}.
ثانيًا: وروي أنّ أهل الجاهلية كانوا إذا مات الرجل، جاء ابنه من غيرها أو وليه فورث امرأته كما يرث ماله، وألقى عليها ثوبًا، فإن شاء تزوجها بالصداق الأول، وإن شاء زوّجها غيره وأخذ صداقها فنهوا عن ذلك ونزل {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهًا}.
ثالثًا: وروي أن (أبا قيس بن الأسلت) لما توفي خطب ابنه (قيس) امرأته فقالت: إنما أعدّك ولدًا وأنت من صالحي قومك، ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستأمره، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم تستأذنه وقالت: إنما كنت أعده ولدًا فما ترى؟ فقال لها: ارجعي إلى بيتك، فنزلت هذه الآية {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النساء} الآية.

.وجوه القراءات:

1- قرأ الجمهور {أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهًا} بفتح الكاف، وقرأ حمزة والكسائي {كُرْهًا} بضمها.
2- قرأ الجمهور {بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} بكسر الياء، وقرأ ابن كثير وعاصم {مبيَّنة} بفتح الياء.
3- قرأ أهل الكوفة وأبو جعفر {وَأُحِلَّ لَكُمْ} بالضم وكسر الحاء، وقرأ الباقون بفتح الهمزة والحاء.
أولًا: قوله تعالى: {أَن تَرِثُواْ النساء كَرْهًا} أن ترثوا في موضع رفع فاعل يحل و{كرهًا} مصدر في موضع نصب على الحال من المفعول والتقدير: لا يحل لكم إرث النساء مكرهاتٍ.
ثانيًا: قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ} استثناء منقطع وقيل هو استثناء متصل تقديره: ولا تعضلوهن في حال من الأحوال إلا في حال إتيانهن بفاحشة مبينة.
ثالثًا: قوله تعالى: {بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} المصدران منصوبان على الحال بتأويل الوصف أي اتأخذونه باهتين وآثمين و{مبينًا} صفة منصوب.
لطائف:
اللطيفة الأولى:
التعليل في قوله تعالى: {فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} إطماع للأزواج بالصبر على نسائهن وحسن معاشرتهن حتى في حالة الكراهية لهن، فربّ شيء تكرهه النفس يكون فيه الخير العظيم، وقد أرشدت الآية إلى قاعدة عامة لا في النساء خاصة بل في جميع الأشياء، وهذا هو السر في قوله: {وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا} ولم يقل: وعسى أن تكرهوا امرأة مع أن الوصية في الآية حول الإحسان إلى النساء، فتدبره فإنه دقيق.
اللطيفة الثانية:
كنى الله عز وجل عن الجماع بلفظ الإفضاء {وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} وهي كناية لطيفة مثل (الملامسة، والمماسة، والقربان، والغشيان) وكلها كنايات عن الجماع، وفي ذلك تعليم للأمة الأدب الرفيع ليتخلقوا بأخلاق القرآن قال ابن عباس: الإفضاء في هذه الآية الجماع ولكنّ الله كريم يكني والكناية إنما تكون فيم لا يحسن التصريح به.
اللطيفة الثالثة:
قال القرطبي: خطب عمر رضي الله عنه فقال: أيها الناس لا تغالوا في صدقات النساء (مهورهن) فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا، أو تقوى عند الله، لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أصدق امرأة من نسائه ولا أحدًا من بناته فوق اثنتي عشرة أوقية، فقامت إليه امرأة فقالت: يا عمر، يعطينا الله وتحرمنا؟ يقول الله سبحانه وتعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا} فقال رضي الله عنه: أصابت امرأة وأخطأ عمر، كلّ الناس أفقه منك يا عمر وترك الإنكار.
اللطيفة الرابعة:
قال صاحب الكشاف: الميثاق الغليظ حق الصحبة والمضاجعة، ووصفه بالغلظة لقوته وعظمته، فقد قالوا: صحبة عشرين يومًا قرابة، فكيف بما جرى بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج.
قال الشهاب الخفاجي: بل صحبة يوم قرابة وقد قالوا:
صحبةُ يوم نسبٌ قريبُ ** وذمةٌ يعرفها اللبيبُ

اللطيفة الخامسة:
قال الرازي: مراتب القبح ثلاثة، القبح في العقول، وفي الشرائع، وفي العادات، فقوله: {إنه كان فاحشة} إشارة إلى القبح العقلي، وقوله: {مقتًا} إشارة إلى القبح الشرعي، وقوله: {وساء سبيلًا} إشارة إلى القبح في العرف والعادة، ومتى اجتمعت فيه هذه الوجوه فقد بلغ الغاية في القبح.

.الأحكام الشرعية:

.الحكم الأول: ما هو مقدار المهر المفروض في الشريعة الإسلامية؟

المهر في الشريعة الإسلامية هبة وعطية، وليس له قدر محدّد، إذ الناس يختلفون في الغنى والفقر، ويتفاوتون في السعة والضيق، فتركت الشريعة التحديد ليعطي كل واحد على قدر طاقته وحسب حالته، وقد اتفق الفقهاء على أنه لا حدّ لأكثر المهر لقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئًا}.
قال العلامة القرطبي: في هذه الآية دليل على جواز المغالاة في المهور، لأن الله تعالى لا يمثّل إلاّ بمباح، وذكر قصة عمر وفيها قوله أصابت امرأة وأخطأ عمر. وقال قوم: لا تعطي الآية جواز المغالاة في المهور، لأن التمثيل بالقنطار إنما هو على جهة المبالغة، كأنه قال: وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: «من بنى مسجدًا لله ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتًا في الجنة» ثم قال: وأجمع الفقهاء على ألا تحديد في أكثر الصداق.
وأمّا أقل المهر فقد اختلفوا فيه على أقوال:
أ- أقلة ثلاثة دراهم (ربع دينار) وهو مذهب مالك رحمه الله تعالى.
ب- أقله عشرة دراهم (دينار) وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
ج- لا حدّ لأقله ويجوز بكل شيء له قيمة وهو مذهب الشافعي وأحمد رحمهما الله.
قال الحافظ وقد وردت أحاديث في أقل الصداق لا يثبت منها شيء.
قال العلامة القرطبي: تعلق الشافعي بعموم قوله تعالى: {بأموالكم} في جواز الصداق بقليل وكثير، وهو الصحيح ويعضده قوله عليه السلام «لو أن رجلًا أعطى ملء يديه طعامًا كانت به حلالًا» وأنكح سعيد بن المسيب ابنته من (عبد الله بن وَدَاعة) بدرهمين.
قال الشافعي: كل ما جاز أن يكون ثمنًا لشيء أو جاز أن يكون أجرة جاز أن يكون صداقًا، وهذا قول جمهور أهل العلم وأهل الحديث، كلهم أجاز الصداق بقليل المال وكثيره.
حجة المالكية والأحناف: أن الشيء الحقير لا يصلح مهرًا، ولابد في المهر من قدر معلوم من المال، ولما كانت يد السارق لا تقطع إلاّ في دينار (على قول أبي حنيفة) وفي ربع دينار (على قول مالك) اعتبر هذا القدر في المهر قياسًا على حد السرقة.
واستدل أبو حنيفة: بما رواه جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا صداق دون عشرة دراهم».
الترجيح: أقول ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة أرجح فقد زوّج عليه السلام أحد الصحابة على ما يحفظه من القرآن «زوجتكها بما معك من القرآن» وقال لشخص: «التمس ولو خاتمًا من حديد»، وزوج سيد التابعين (سعيد بن المسيب) ابنته على درهمين ولم ينكر عليه أحد، والأصل في المقادير إثباتها بطريق الشرع، وليس ثمة حديث صحيح في أقل الصداق يصلح حجة كما قال الحافظ والله أعلم.

.الحكم الثاني: ما المراد بالميثاق الغليظ في الآية الكريمة؟

قال الضحاك وقتادة: هو العهد الذي أخذ عليهم من إحسان العشرة إلى النساء في قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} [البقرة: 229].
وقال مجاهد وعكرمة: المراد بالميثاق الغليظ هو (عقد النكاح) وقد دل عليه قوله عليه السلام: «اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله».

.الحكم الثالث: ما هي المحرمات التي أرشدت إليها الآية الكريمة؟

المحرمات التي يحرم الزواج بهن ثلاثة أنواع وهن كالآتي:
1- محرمات بالنسب 2- محرمات بالرضاع 3- محرمات بالمصاهرة.
المحرمات من النسب:
أشارت الآية الكريمة إلى تحريم سبعة من النسب وهنّ: (الأمهات، البنات، الأخوات، العمات، الخالات، بنات الأخ، بنت الأخت) وهؤلاء يحرم الزواج بهن على التأبيد، أي أنه لا يحل الزواج بهن بحال من الأحوال، ويدخل في الأمهات الجدات وإن علون، كما يدخل في البنات بناتهن وإن سفلن، وكذلك الأخوات سواء كنّ شقيقات أو لأب أو لأم، والعمات والخالت وإن علون سواء كنّ شقيقات أو لأب أو لأم، والعمات والخالات وإن علون سواء كن من جهة الأب أو الأم.